يطرح الكثير من المتعلمين هذا السؤال: هل يمكن أن أنسى لغتي الأم إذا أتقنت الفرنسية؟ وهل كثرة الممارسة أو الهجرة إلى بلد فرنسي يؤدي إلى فقدان العربية تدريجياً؟ هذا السؤال منطقي، لأنه مرتبط بالهوية، بالذاكرة، وبالخوف من الابتعاد عن الجذور الثقافية. لكن الحقيقة العلمية والنفسية تختلف كثيراً عمّا يتخيله البعض.
هل يمكن للدماغ أن ينسى لغته الأم؟
لغتك الأم ليست مجرد كلمات حفظتها في الماضي، بل هي جزء من نظام عقلي متجذر في الدماغ منذ الطفولة. الطفل يتعلم لغته الأولى من خلال السماع، الحركة، المشاعر، والذاكرة الطويلة. لذلك، من الصعب جداً أن تُمحى هذه اللغة تماماً، حتى بعد سنوات من استخدام لغات جديدة.
الدراسات العلمية تؤكد أن الدماغ يحتفظ باللغة الأم في أعمق مناطق الذاكرة اللغوية. حتى الأشخاص الذين توقفوا عن استخدام لغتهم الأولى لسنوات، تعود إليهم بسهولة عند الاحتكاك بها أو سماعها. وهذا يعني أن اكتساب الفرنسية لا يهدد العربية، ولا يلغيها.
لكن لماذا يظن البعض أنهم نسوا لغتهم الأم؟
ما يحدث ليس نسياناً حقيقياً، بل "تداخل لغوي". أي أن المفردات الفرنسية تصبح أسرع في الظهور من المفردات العربية، لأن الدماغ يستخدم آخر لغة مارسها بشكل أكبر. عندما يتعود المتعلم على التفكير بالفرنسية، قد يبحث لفترة عن الكلمة العربية المناسبة، فيظن أنه نسيها. لكن هذا ليس فقداناً، بل تأخر بسيط في الاسترجاع.
مثال بسيط: شخص يعيش في فرنسا ويستخدم الفرنسية في العمل، الشارع، الدراسة، والتواصل اليومي. عندما يتحدث العربية، قد تظهر بعض الكلمات الفرنسية تلقائياً. هذا طبيعي ولا يعني أن العربية اختفت، بل يعني أن الدماغ يستخدم أقصر طريق للوصول إلى المعلومة.
هل يمكن أن يحدث ذلك مع الأطفال أكثر من البالغين؟
الأطفال هم الفئة الأكثر عرضة لتغيّر اللغة الأساسية إذا عاشوا في بيئة لا تستخدم اللغة الأم. فدماغ الطفل يتعلم بسرعة كبيرة، وإذا كانت كل دراسته وحياته اليومية باللغة الفرنسية، فقد تصبح العربية بالنسبة إليه لغة ثانوية أو ضعيفة.
لكن الحل بسيط: التحدث بالعربية في المنزل، القراءة، الاستماع، مشاهدة محتوى عربي. فالأطفال قادرون على تعلم لغتين أو ثلاث لغات دون أن يفقدوا لغتهم الأم، إذا وجدوا من يستخدمها معهم باستمرار.
هل الفرنسيون أو المتقنون للفرنسية ينسون لغتهم الأصلية؟
ملايين الناس حول العالم يتحدثون لغتين أو أكثر، ومع ذلك يحتفظون بلغتهم الأم بشكل طبيعي. هناك عرب في فرنسا، كندا وبلجيكا يتقنون الفرنسية بطلاقة، لكنهم يتحدثون العربية مع أهلهم، يكتبون، يقرؤون، ويحتفظون بلهجتهم وثقافتهم.
إدخال لغة جديدة إلى حياتك لا يلغي اللغة القديمة، بل يعزز مهاراتك الذهنية، ويقوّي الذاكرة، ويرفع مستوى الذكاء اللغوي.
لماذا يشعر البعض أن لغته الأم ضعفت بعد تعلم الفرنسية؟
هناك عدة أسباب:
- استخدام الفرنسية أكثر من العربية في الحياة اليومية
- عدم القراءة بالعربية
- غياب البيئة العربية (عائلة، أصدقاء، محتوى)
- الاعتماد على الترجمة الفورية في الدماغ
في هذه الحالات، اللغة الأم لا تُنسى، لكنها تحتاج إلى "تنشيط". مثل عضلة لم تُستخدم منذ مدة، تعود قوية بمجرد التدريب.
كيف تحافظ على العربية أثناء تعلم الفرنسية؟
الحل بسيط وليس مرهقاً:
1- اقرأ بالعربية ولو عشر دقائق يومياً 2- شاهد فيديوهات أو برامج بالعربية 3- استخدم العربية مع العائلة والأصدقاء 4- اكتب جملة أو منشور بالعربية من وقت لآخر 5- علّم شخصاً آخر كلمة أو معلومة
الدماغ يحب التعرض المستمر، وكلما سمع العربية أكثر عاد إليها بسهولة، حتى لو كنت تعيش في بلد أجنبي.
هل يمكن أن تصبح الفرنسية أقوى من لغتك الأم؟
نعم، هذا ممكن في حالات معينة:
- إذا عاش المتعلم سنوات دون أي احتكاك بلغته الأم
- إذا كانت كل حياته باللغة الجديدة: العمل، الدراسة، الكتابة، التفكير
- إذا لم يقرأ أو يكتب بلغته الأولى مطلقاً
لكن حتى في هذه الحالات، اللغة الأم لا تختفي، بل تنتقل إلى مستوى أعمق في الذاكرة. ويمكن استعادتها عند السماع أو القراءة من جديد.
هل إتقان الفرنسية يسبب "تشويشاً" لغوياً؟
التعدد اللغوي ليس خطراً، بل فائدة. الدماغ قادر على تشغيل أكثر من نظام لغوي في وقت واحد. الأشخاص المزدوجو اللغة لديهم ذاكرة أقوى، تركيز أعلى، ومرونة عقلية أكبر من أحادي اللغة.
التبديل بين العربية والفرنسية لا يدل على ضعف، بل يدل على قدرة عقلية متقدمة تسمى "التحكم التنفيذي للدماغ".
خلاصة مهمة
لا أحد ينسى لغته الأم لمجرد تعلّم لغة جديدة. اللغات ليست صندوقاً مغلقاً، بل مساحة تتسع دائماً. يمكنك أن تتقن الفرنسية وتظل عربياً، تتحدث العربيّة بفخر، وتفهم ثقافتك وهويتك دون أن تتأثر.
الفرنسية ليست بديلاً عن العربية، بل إضافة إليها. كل لغة تتعلمها تمنحك طريقة جديدة للتفكير، وتفتح لك أبواب العلم والعمل والتواصل مع العالم.
لذلك، لا تخف من إتقان الفرنسية. لغتك الأم في أمان، وما دمت تستخدمها، ولو قليلاً، ستظل حاضرة دائماً.
